الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ: اذْكُرُوا اللَّهَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّعْظِيمِ فِي أَيَّامٍ مُحْصَيَاتٍ، وَهِيَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ. أَمَرَ عِبَادَهُ يَوْمَئِذٍ بِالتَّكْبِيرِ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ، وَعِنْدَ الرَّمْيِ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْ حَصَى الْجِمَارِ يَرْمِي بِهَا جَمْرَةً مِنَ الْجِمَارِ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، قَالَ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ: قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبَى بَشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، يَعْنِي بِالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ النَّحْرِ. وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، يَعْنِي أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُخَلَّدٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْن دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعَهُ يَوْمَ الصَّدْرِ يَقُولُ بَعْدَ مَا صَدَرَ يُكَبِّرُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَتَأَوَّلُ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، يَعْنِي أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ السُّكَّرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، قَالَ: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، قَالَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ بِمِنًى. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ وَعَطَاءٍ قَالَا هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: الْأَيَّامُ بَعْدَ النَّحْرِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَأَلْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ عَنِ "الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ"، قَالَ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زَرِيعٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهَا أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، قَالَ: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: "أَمَّا الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ": فَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: "الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ"، ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ. حُدِّثْتُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضِّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} قَالَ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ. حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرَقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍعَنْ" الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ" و"الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ"، فَقَالَ: "الأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ" أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، "وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ"، يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ "الأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ"، هِيَ أَيَّامُ مِنًى وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهَا: إِنَّهَا أَيَّامُ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَخَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ طُعْمٍ وَذِكْر). حَدَّثَنَا خَلَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ يَطُوفُ فِي مِنًى: لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل). وَحَدَّثَنَا حُمَِيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْر بْنُ الْمُفَضَّلِ وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَا، جَمِيعًا حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ عَائِشَة: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّه). حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَة، قَالَتْ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْصَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِوَقَالَ: هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّه). حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِشْرَ بْنَ سُحَيْمٍ، فَنَادَى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّه). حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ. قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ بْنَ قَيْسٍ فَنَادَى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ هَدْيٍ). حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ الزُّرَقَيِّ، عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءِ حِينَ وَقَفَ عَلَى شِعْبِ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَقُولُ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَيَّامِ صِيَامٍ، إِنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ فِي أَيَّامِ مِنًى: إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ، لَمْ يُخْبِرْ أُمَّتَهُ أَنَّهَا "الأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ" الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَى بِقَوْلِهِ: "وَذِكْرُ اللَّهِ"، "الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ"؟ قِيلَ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ عَنَى ذَلِكَ. لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ يُوجِبُ فِي "الأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ" مِنْ ذِكْرِهِ فِيهَا مَا أَوْجَبَ فِي "الأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ". وَإِنَّمَا وَصَفَ "المَعْلُومَاتِ" جَلَّ ذِكْرُهُ بِأَنَّهَا أَيَّامٌ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ عَلَى بَهَائِمِ الْأَنْعَامِ، فَقَالَ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الْحَجِّ: 28]، فَلَمْ يُوجِبْ فِي "الأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ" مِنْ ذِكْرِهِ كَالَّذِي أَوْجَبَهُ فِي "الأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ" مِنْ ذِكْرِهِ، بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهَا أَيَّامُ ذِكْرِهِ علىَ بَهَائِمِ الْأَنْعَامِ. فَكَانَ مَعْلُومًا إِذْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ: (إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّه). فَأَخْرَجَ قَوْلَهُ: "وَذِكْرِ اللَّه" مُطْلَقًا بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَلَا إِضَافَةَ، إِلَى أَنَّهُ الذِّكْرُ عَلَى بَهَائِمِ الْأَنْعَامِ أَنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ الذِّكْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَأَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ مُطْلَقًا بِغَيْرِ شَرْطٍ وَلَا إِضَافَةٍ إِلَى مَعْنًى فِي "الأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ"، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَرَادَ بِذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصْفَ "الأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ" بِهِ، لَوَصَلَ قَوْلَهُ: "وَذِكْرٍ"، إِلَى أَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهَائِمِ الْأَنْعَامِ، كَالَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ بِاسْمِ الذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ وَصْلِهِ بِشَيْءٍ، كَالَّذِي أَطْلَقَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِاسْمِ الذِّكْرِ، فَقَالَ: "وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ" فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَوْجَبَهُ فِي "الأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَمَنْتَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَنَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِيفَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي نَفْرِهِ وَتَعَجُّلِهِ فِي النَّفْرِ، وَمَنْتَأَخَّرَ عَنِ النَّفَرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِحَتَّى يَنْفِرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي تَأَخُّرِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي تَعْجِيلِهِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِهِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ}، يَوْمَ النَّفَرِ، " فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، " وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ". حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا: "مَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، يَقُولُ: مَنْ نَفَرَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَنَفَرَ فِي الثَّالِثِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ}، يَقُولُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ- أَيْ: مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ"فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، وَمَنْ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ بِمِنًى مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ قَبْلٍ أَنْ يَنْفِرَ، فَلَا نَفْرَ لَهُ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنَ الْغَدِ" وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، يَقُولُ: مَنْ تَأَخَّرَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَالَ: رَخَّصَ اللَّهُ فِي أَنْ يَنْفِرُوا فِي يَوْمَيْنِ مِنْهَا إِنْ شَاءُوا، وَمَنْ تَأَخَّرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: "فَمَنْ {تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَالَ فِي تَعْجِيلِهِ. حَدَّثَنِي هَنَّادُ بْنُ السَّرِّيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبَى زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: "لَا إِثْمَ عَلَيْهِ " لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ تَعَجَّلَ، وَلَا إِثْمَ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: هَذَا فِي التَّعْجِيلِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: حَلَّ النَّفْرَ فِي يَوْمَيْنِ لِمَنِ اتَّقَى. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ" فِي تَعَجُّلِهِ،). وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ" فِي تَأَخُّرِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَلِلْمَكِّيِّ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فَهِيَ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: "فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِثْمٌ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، يَقُولُ: مَنْ نَفَرَ مِنْ مِنًى فِي يَوْمَيْنِ بَعْدَ النَّحْرِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، "وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ" فِي تَأَخُّرِهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} فِي تَعَجُّلِهِ، " وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ" فِي تَأَخُّرِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمِنْ تَأَخَّرَ كَذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِثْمٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَمَّادٍ. عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، أَيْ غُفِرَ لَهُ" وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، قَالَ: غُفِرَ لَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَعَّرٌ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، أَيْ غُفِرَ لَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: "فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمِنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، قَالَ: قَدْ غُفِرَ لَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَدْ غُفِرَ لَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} قَالَ: بَرِئَ مِنَ الْإِثْمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} قَالَ: رَجَعَ مَغْفُورًا لَهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَالَ: قَدْ غُفِرَ لَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَالَ: قَدْ غُفِرَ لَهُ، إِنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا، إِنَّ الْعُمْرَةَ لَتُكَفِّرُ مَا مَعَهَا مِنَ الذُّنُوبِ فَكَيْفَ بِالْحَجِّ!. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَعَامِرٍ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَالَا غُفِرَ لَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أُصَدِّقُهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلُهُ: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَالَ: خَرَجَ مِنَ الْإِثْمِ كُلِّهِ" وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، قَالَ: بَرِئَ مِنَ الْإِثْمِ كُلِّهِ، وَذَلِكَ فِي الصَّدْرِ عَنِ الْحَجِّ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَسَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، قَالَ: غُفِرَ لَهُ، " وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، قَالَ: غُفِرَ لَهُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ سَوَادَةَ الْقَطَّانُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَالَ: لِمَنْ فِي الْحَجِّ، لَيْسَ عَلَيْهِ إِثْمٌ حَتَّى الْحَجِّ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ. فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنِ اتَّقَى اللَّهَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: "فَمَنْ {تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، قَالَ: ذَهَبَ إِثْمُهُ كُلُّهُ إِنِ اتَّقَى فِيمَا بَقِيَ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، مِثْلَهُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، قَالَ: لِمَنِ اتَّقَى بِشَرْطٍ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ "وَمَنْ تَأَخَّرَ" إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي مِنْ هَؤُلَاءِ، مِمَّنْ يُصِيبُهُ اسْمُ التَّقْوَى. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: "لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، يَقُولُ: لِمَنِ اتَّقَى مَعَاصِيَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: "فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ" مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ" فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، أَيْ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَعْجِيلِهِ النَّفْرَ، إِنْ هُوَ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَمْ يَنْفِرْ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ: {لِمَنِ اتَّقَى} أَنْ يُصِيبَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، وَلَا يَحْلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ صَيْدًا حَتَّى تَخْلُوَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: "فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ" مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَنَفَرَ "فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، أَيْ مَغْفُورٌ لَهُ-"وَمَنْ تَأَخَّرَ" فَنَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ "فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، أَيْ مَغْفُورٌ لَهُ إِنِ اتَّقَى عَلَى حَجِّهِ أَنْ يُصِيبَ فِيهِ شَيْئًا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {لِمَنِ اتَّقَى}، قَالَ: يَقُولُ لِمَنِ اتَّقَى عَلَى حَجِّهِ قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: مَنِ اتَّقَى فِي حَجِّهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ- أَوْ: مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: "فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ" مِنْ أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ فَنَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي "فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، لِحَطِّ اللَّهِ ذُنُوبَهُ، إِنْ كَانَ قَدِ اتَّقَى اللَّهَ فِي حَجِّهِ، فَاجْتَنَبَ فِيهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِاجْتِنَابِهِ، وَفَعَلَ فِيهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وَأَطَاعَهُ بِأَدَائِهِ عَلَى مَا كَلَّفَهُ مِنْ حُدُودِهِ "وَمَنْ تَأَخَّرَ" إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْهُنَّ فَلَمْ يَنْفِرْ إِلَى النَّفْرِ الثَّانِي حَتَّى نَفَرَ مِنْ غَدِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، "فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، لِتَكْفِيرِ اللَّهِ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ آثَامِهِ وَإِجْرَامِهِ، وَإِنْ كَانَ اتَّقَى اللَّهَ فِي حَجِّهِ بِأَدَائِهِ بِحُدُودِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى تَأْوِيلَاتِهِ [بِالصِّحَّةِ]، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (وَمَنْ حَجِّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّه) وَأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّة). حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الْجَنَّة). حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: . حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمْرَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةَ مَا بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ الْخَبَثَ أَوْ: خَبَثَ الْحَدِيد). حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا قَضَيْتَ حَجَّكَ فَأَنْتَ مِثْلُ مَا وَلَدَتْكَ أُمُّك). وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِذِكْرِ جَمِيعِهَا الْكِتَابُ، مِمَّا يُنْبِئُ عَنْهُ أَنَّمَنْ حَجَّ فَقَضَاهُ بِحُدُودِهِ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ ذُنُوبِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} اللَّهَ فِي حَجِّهِ. فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوَضِّحُ عَنْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ ذُنُوبِهِ، مَحْطُوطَةٌ عَنْهُ آثَامُهُ، مَغْفُورَةٌ لَهُ أَجْرَامُهُ وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي نَفْرِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي مُقَامِهِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ. لِأَنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يُوضَعُ عَنِ الْعَامِلِ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ تَرْكُ عَمَلِهِ، فَيُرَخَّصُ لَهُ فِي عَمَلِهِ بِوَضْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ فِي عَمَلِهِ; أَوْ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، فَيُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِهِ بِوَضْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ فِي تَرْكِهِ. فَأَمَّا مَا عَلَى الْعَامِلِ عَمَلُهُ فَلَا وَجْهَ لِوَضْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ فِيهِ إِنْ هُوَ عَمِلَهُ، وَفَرْضُهُ عَمَلُهُ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَدِّي فَرْضًا عَلَيْهِ، حَرَجًا بِأَدَائِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ وَضَعْنَا عَنْكَ فِيهِ الْحَرَجَ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْحَاجُّ لَا يَخْلُو عِنْدَ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، أَوْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ النَّفْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَوُضِعَ عَنْهُ الْحَرَجُ فِي الْمُقَامِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ الْمُقَامَ، إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَوُضِعَ عَنْهُ الْحَرَجُ فِي النَّفْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَإِنْ يَكُنْ فَرْضُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الْمُقَامَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْهَا، فَوُضِعَ عَنْهُ الْحَرَجُ فِي نَفْرِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهَا- وَذَلِكَ هُوَ التَّعَجُّلُ الَّذِي قِيلَ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}- فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِنَّمَا هُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ أَدَاءِ فَرْضٍ عَلَيْهِ، تَارِكٌ قَبُولَ رُخْصَةِ النَّفْرِ، فَلَا وَجْهَ لِأَنْ يُقَالَ: "لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي مُقَامِكَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ"، لِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ- أَوْ يَكُونَ فَرْضُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي النَّفْرَ، فَرُخِّصَ لَهُ فِي الْمُقَامِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَلَا مَعْنَى أَنْ يُقَالَ: "لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي تَعَجُّلِكَ النَّفْرَ الَّذِي هُوَ فَرْضُكَ وَعَلَيْكَ فِعْلُهُ"، لِلَّذِي قَدَّمْنَا مِنَ الْعِلَّةِ. وَكَذَلِكَ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي نَفْرِهِ ذَلِكَ، إِنِ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ إِلَى انْقِضَاءِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ تَأْوِيلًا مُسَلَّمًا لِقَائِلِهِ لَكَانَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، مَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ فِي أَنَّالصَّيْدَ لِلْحَاجِّ بَعْدَ نَفْرِهِ مِنْ مِنًى فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِحَلَالٌ، فَمَا الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وُضِعَ عَنْهُ الْحَرَجُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، إِذَا هُوَ تَأَخَّرَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ ثُمَّ نَفَرَ؟ هَذَا، مَعَ إِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا رَمَى وَذَبَحَ وَحَلَّقَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَتَصْرِيحِ الرِّوَايَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، الَّتِي: حَدَّثَنَا بِهَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِّيِّ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ قَالَتْ: (سَأَلْتُ عَائِشَة أمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَتَى يَحِلُّ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَمَيْتُمْ وَذَبَحْتُمْ وَحَلَّقْتُمْ، حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاء) قَالَ: وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ. وَأَمَّا الَّذِي تَأَوَّلَ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى: (لَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ)، فَلَا وَجْهَ لِتَحْدِيدِ ذَلِكَ بِوَقْتٍ، وَإِسْقَاطِهِ الْإِثْمَ عَنِ الْحَاجِّ سَنَةً مستقبَلَةً، دُونَ آثَامِهِ السَّالِفَةِ. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَحْصُرْ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ إِثْمِ وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ بِظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ، وَلَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ دَلَالَةُ ظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ تُبَيِّنُ عَنْ أَنَّ الْمُتَعَجِّلَ فِي الْيَوْمَيْنِ وَالْمُتَأَخِّرَ لَا إِثْمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَالِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ. وَالْخَبَر عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ بِانْقِضَاءِ حَجِّهِ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ، خَارِجٌ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. فَفِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ ظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ، وَصَرِيحِ قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ انْقِضَاءِ حَجِّهِ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: مَا الْجَالِبُ "اللَّامَ" فِي قَوْلِهِ: "لِمَنِ اتَّقَى"؟ وَمَا مَعْنَاهَا؟ قِيلَ: الْجَالِبُ لَهَا مَعْنَى قَوْلِهِ: "فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ". لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: "فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ" مَعْنَى: حَطَطْنَا ذُنُوبَهُ وَكَفَّرْنَا آثَامَهُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى: جَعَلْنَا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي حَجِّهِ، فَتَرَكَ ذِكْرَ" جَعَلْنَا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ"، اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّهُ كَأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ، فَقَالَ: {لِمَنِ اتَّقَى} أَيْ: هَذَا لِمَنِ اتَّقَى. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الصِّفَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا، وَلَكِنَّهَا فِيمَا زَعَمَ مِنْ صِلَةِ" قَوْلٍ" مَتْرُوكٍ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ" قُلْنَا": {وَمَنْ تَأَخُّرٍ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}، وَقَامَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، مَقَامَ "القَوْلِ". وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَوْضِعَ طَرْحِ الْإِثْمِ فِي الْمُتَعَجِّلِ، فَجُعِلَ فِي الْمُتَأَخِّرِ وَهُوَ الَّذِي أَدَّى وَلَمْ يُقَصِّرْ مِثْلَ مَا جُعِلَ عَلَى الْمُقَصِّرِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: "إِنْ تَصَدَّقْتَ سِرًّا فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَظْهَرْتَ فَحَسَنٌ"، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ عَلَانِيَةً إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الرِّيَاءَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْرَارُ أَحْسَنَ. وَلَيْسَ فِي وَصْفِ حَالَتَيِ الْمُتَصَدِّقَيْنِ بِالْحُسْنِ وَصْفُ إِحْدَاهُمَا بِالْإِثْمِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ النَّافِرِينَ بِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنْهُمَا، وَمُحَالٌ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمَا إِلَّا مَا كَانَ فِي تَرْكِهِ الْإِثْمُ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَوْ تَرَكَا النَّفْرَ وَأَقَامَا بِمِنىً لَمْ يَكُونَا آثِمَيْنِ، مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ مَنْ حَكَيْنَا عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ أَيْضًا: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَعْنَى نَهْيِ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ أَنْ يُؤَثِّمَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، لَا يَقُلِ الْمُتَعَجِّلُ لِلْمُتَأَخِّرِ: "أَنْتَ آثِمٌ"، وَلَا الْمُتَأَخِّرُ لِلْمُتَعَجِّلِ: "أَنْتَ آثِمٌ"، بِمَعْنَى: فَلَا يُؤَثِّمَنَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَهَذَا أَيْضًا تَأْوِيلٌ لِقَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مُخَالِفٌ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَاهِدًا عَلَى خَطَئِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ، فَخَافُوهُ فِي تَضْيِيعِهَا وَالتَّفْرِيطِ فِيهَا، وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فِي حَجِّكُمْ وَمَنَاسِكِكُمْ أَنْ تَرْتَكِبُوهُ أَوْ تَأْتُوهُ وَفِيمَا كَلَّفَكُمْ فِي إِحْرَامِكُمْ لِحَجِّكُمْ أَنْ تُقَصِّرُوا فِي أَدَائِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ، "وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"، فَمُجَازِيكُمْ هُوَ بِأَعْمَالِكُمْ- الْمُحْسِنُ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءُ بِإِسَاءَتِهِ- وَمُوَفٍّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْكُمْ مَا عَمِلَتْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا نَعْتٌ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ، بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ يَا مُحَمَّدُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَعَلَانِيَتُهُ، وَيَسْتَشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام، جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَي مَنْ نَـزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ. نَـزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَحَلَفَ أَنَّهُ مَا قَدِمَ إِلَّا لِذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ فَأَفْسَدَ أَمْوَالًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ- وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ- وَأَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، فَأَظْهَرَ لَهُ الْإِسْلَامَ، فَأَعْجَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُ أُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقٌ! وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وُحُمُرٍ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ، وَعَقَرَ الْحُمُرَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}. وَأَمَّا {أَلَدُّ الْخِصَامِ} فَأَعْوَجُ الْخِصَامِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الْهُمَزَةِ: 1] وَنَـزَلَتْ فِيهِ: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} إِلَى {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [الْقَلَمِ: 13] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَـزَلَ ذَلِكَ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ تَكَلَّمُوا فِي السَّرِيَّةِ الَّتِي أُصِيبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّجِيعِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بَكِيرٍ، عَنْ أَبَى إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لِمَا أُصِيبَتْ هَذِهِ السَّرِيَّةُ أَصْحَابُ خُبَيْبٍ بِالرَّجِيعِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: يَا وَيْحَ هَؤُلَاءِ الْمَقْتُولِينَ الَّذِينَ هَلَكُوا هَكَذَا! لَا هُمْ قَعَدُوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَا هُمْ أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ، وَمَا أَصَابَ أُولَئِكَ النَّفَرَ فِي الشَّهَادَةِ وَالْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ: مَا يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} أَيْ مِنَ النِّفَاقِ- {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أَيْ: ذُو جِدَالٍ إِذَا كَلَّمَكَ وَرَاجَعَكَ {وَإِذَا تَوَلَّى}- أَيْ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ {سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}- أَيْ: لَا يُحِبُّ عَمَلَهُ وَلَا يَرْضَاهُ {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} الَّذِينَ شَرَوْا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ، حَتَّى هَلَكُوا عَلَى ذَلِكَ- يَعْنِي هَذِهِ السَّرِيَّةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- أَوْ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قَالَ: لِمَا أُصِيبَتِ السَّرِيَّةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا عَاصِمٌ وَمَرْثَدٌ بِالرَّجِيعِ، قَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ:- ثُمَّ ذَكَرَ نَحْو حَدِيثِ أَبِي كُرَيْبٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ، وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} اخْتِلَافَ سَرِيرَتِهِ وَعَلَانِيَتِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَعْشَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبَى أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ يُذَاكِرُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، لَبِسُوا لِلنَّاسِ مُسُوكَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، يَجْتَرُّونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَعَلَيَّ يَجْتَرِءُونَ، وَبِي يَغْتَرُّونَ!! وَعِزَّتِي لِأَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً تَتْرُكُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ!! فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. فَقَالَ سَعِيدٌ: وَأَيْنَ هُوَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ" فَقَالَ سَعِيدٌ: قَدْ عَرَفْتَ فَي مَنْ أُنْـزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ! فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ الْآيَةَ تَنْـزِلُ فِي الرَّجُلِ، ثُمَّ تَكُونُ عَامَّةً بَعْدُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنِ الْقُرَظِيِّ، عَنْ نَوْفٍ- وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ- قَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ صِفَةَ نَاسٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَـزَّلِ: "قَوْمٌ يَجْتَالُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ لِبَاسَ مُسُوكِ الضَّأْنِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، فَعَلَيَّ يَجْتَرِءُونَ! وَبِي يَغْتَرُّونَ! حَلَفْتُ بِنَفْسِي لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً تَتْرُكُ الْحَلِيمَ فِيهِمْ حَيْرَانَ". قَالَ الْقُرَظِيُّ: تَدَبَّرْتُهَا فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَوَجَدْتُهَا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الْحَجُّ: 11] وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} قَالَ: هُوَ الْمُنَافِقُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ}، قَالَ: عَلَانِيَتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُشْهِدُ اللَّه فِي الْخُصُومَةِ، إِنَّمَا يُرِيدُ الْحَقَّ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبَى جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، قَالَ: هَذَا عَبْدٌ كَانَ حَسَنَ الْقَوْلِ سَيِّئَ الْعَمَلِ، يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُحْسِنُ لَهُ الْقَوْلَ، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا}. وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}، قَالَ: يَقُولُ قَوْلًا فِي قَلْبِهِ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: "وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ"، وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ: فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ الْقَرَأَةِ: "وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ"، بِمَعْنَى أَنَّ الْمُنَافِقَ الَّذِي يُعْجِبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ، يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، أَنَّ قَوْلَهُ مُوَافِقٌ اعْتِقَادَهُ، وَأَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ كَاذِبٌ. كَمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إِلَى {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، كَانَ رَجُلٌ يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّكَ جِئْتَ بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ! قَالَ: حَتَّى يُعْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ. ثُمَّ يَقُولُ: أَمَا وَاللَّهِ يَا رَسُولََ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لِيَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِي مِثْلُ مَا نَطَقَ بِهِ لِسَانِي! فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}. قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} حَتَّى بَلَغَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] بِمَا يَشْهَدُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}، يَقُولُ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقٌ، أَنِّي أُرِيدُ الْإِسْلَامَ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ فِي الْخُصُومَةِ أَنَّمَا يُرِيدُ الْحَقَّ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: {وَيُشْهَدُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} بِمَعْنَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى الَّذِي فِي قَلْبِهِ مِنَ النِّفَاقِ، وَأَنَّهُ مُضْمَرٌ فِي قَلْبِهِ غَيْرَ الَّذِي يُبْدِيهِ بِلِسَانِهِ وَعَلَى كَذِبِهِ فِي قَلْبِهِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ فِيمَا مَضَى فِي حَدِيثِ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بَكِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَالَّذِي نَخْتَارُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْقَرَأَةِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}، بِمَعْنَى يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: "الأَلَدُّ" مِنَ الرِّجَالِ: الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ، يُقَالُ فِي" فَعَلْتَ" مِنْهُ: "قَدْ لَدَدْتَ يَا هَذَا، وَلَمْ تَكُنْ أَلَدَّ، فَأَنْتَ تَلُدُّ لَدَدًا ولَدَادَةً". فَأَمَّا إِذَا غَلَبَ مَنْ خَاصَمَهُ، فَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهِ: "لدَدْتَ يَا فُلَانُ فُلَانًا فَأَنْتَ تَلُدُّهُ لَدًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ثُـمَّ أُرَدِّي بِهِـمُ مـن تُـرْدِي *** تَلُـدُّ أقْـرَانَ الخُـصُومُ اللُّـدِّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: أَنَّهُ ذُو جِدَالٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بَكِيرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، أَيْ: ذُو جِدَالٍ، إِذَا كَلَّمَكَ وَرَاجَعَكَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، يَقُولُ: شَدِيدُ الْقَسْوَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ، وَإِذَا شِئْتَ رَأَيْتَهُ عَالِمَ اللِّسَانِ جَاهِلَ الْعَمَلِ، يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ، وَيَعْمَلُ بِالْخَطِيئَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى. قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، قَالَ: جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمِ الْخُصُومَةِ، وَلَكِنَّهُ مُعْوَجُّهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، قَالَ: ظَالِمٌ لَا يَسْتَقِيمُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "الأَلَدُّ الْخِصَامِ"، الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى خُصُومَةٍ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أَلَدُّ الْخِصَامِ}، أَعْوَجُ الْخِصَامِ. قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ: وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الِاعْوِجَاجَ فِي الْخُصُومَةِ مِنَ الْجِدَالِ وَاللَّدَدِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَهُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: "الأَلَدُّ الْخِصَامِ"، الْكَاذِبُ الْقَوْلِ. وَهَذَا الْقَوْل يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ إِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ قَائِلُهُ أَنَّهُ يُخَاصِمُ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْكَذِبِ مِنْهُ جَدَلًا وَاعْوِجَاجًا عَنِ الْحَقِّ. وَأَمَّا "الخِصَامُ" فَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "خَاصَمْتُ فُلَانًا خِصَامًا وَمُخَاصَمَةً". وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِ الَّذِي أَخْبَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُعْجِبُهُ إِذَا تَكَلَّمَ قِيلُهُ وَمَنْطِقُهُ، وَيَسْتَشْهِدُ اللَّهَ عَلَى أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي قِيلِهِ ذَلِكَ، لِشِدَّةِ خُصُومَتِهِ وَجِدَالِهِ بِالْبَاطِلِ وَالزُّورِ مِنَ الْقَوْلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِذَا تَوَلَّى}، وَإِذَا أَدْبَرَ هَذَا الْمُنَافِقُ مِنْ عِنْدِكَ يَا مُحَمَّدُ مُنْصَرِفًا عَنْكَ. كَمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذَا تَوَلَّى}، قَالَ: يَعْنِي: وَإِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ" سَعَى". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا غَضِبَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا تَوَلَّى}، قَالَ: إِذَا غَضِبَ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِذَا خَرَجَ هَذَا الْمُنَافِقُ مِنْ عِنْدِكَ يَا مُحَمَّدُ غَضْبَانَ، عَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَحَاوَلَ فِيهَا مَعْصِيَةَ اللَّهِ، وَقَطْعَ الطَّرِيقِ وَإِفْسَادَ السَّبِيلِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا مَنْ فِعْلِ الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ، الَّذِي ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ فِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، مِنْ إِحْرَاقِهِ زَرْعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلِهِ حُمُرَهُمْ. وَ "السَّعْيُ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعَمَلُ، يُقَالُ مِنْهُ: "فُلَانٌ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ"، يَعْنِي بِهِ: يَعْمَلُ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ نَفْعُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَسَـعَى لِكِنْـدَةَ سَـعْيَ غَـيْرِ مُـوَاكِلٍ *** قَيْسٌ فَضَـرَّ عَدُوَّهَـا وَبَنَـى لَهَـا يَعْنِي بِذَلِكَ: عَمِلَ لَهُمْ فِي الْمَكَارِمِ. وَكَالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى}، قَالَ: عَمِلَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى "الإِفْسَادِ" الَّذِي أَضَافَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ مَا قُلْنَا فِيهِ مِنْ قَطْعِهِ الطَّرِيقَ وَإِخَافَتِهِ السَّبِيلَ، كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ فِعْلِ الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ قَطْعُ الرَّحِمِ وَسَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا}، قَطْعُ الرَّحِمَ، وَسَفْكُ الدِّمَاءِ، دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا قِيلَ: لِمَ تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ أَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْمُنَافِقَ بِأَنَّهُ إِذَا تَوَلَّى مُدْبِرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ فِي أَرْضِ اللَّهِ بِالْفَسَادِ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي "الإِفْسَادِ" جَمِيعُ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ أَنَّالْعَمَلَ بِالْمَعَاصِي إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ، فَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ وَصْفَهُ بِبَعْضِ مَعَانِي "الإِفْسَادِ" دُونَ بَعْضٍ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِفْسَادُ مِنْهُ كَانَ بِمَعْنَى قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ فَقَدْ كَانَ إِفْسَادًا فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعْصِيَةٌ. غَيْرَ أَنَّ الْأَشْبَهَ بِظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيُخِيفُ السَّبِيلَ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَصَفَهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ" سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ"، وَذَلِكَ بِفِعْلٍ مُخِيفِ السَّبِيلِ، أَشْبَهُ مِنْهُ بِفِعْلِ قَطَّاعِ الرَّحِمِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي وَجْهِ"إِهْلَاكِ" هَذَا الْمُنَافِقِ، الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ مِنْصِفَةِ"إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِحْرَاقًا لِزَرْعِ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَقْرًا لِحُمُرِهِمْ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنِ السُّدِّيِّ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَثَّامُ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} الْآيَةَ. قَالَ: إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ، فَيَهْلَكُ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُجَاهِدٌ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّومِ: 41] قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ "بَحْرٌ". وَالَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا مِنَ التَّأْوِيلِ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ، فَإِنَّ الَّذِي هُوَ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا ذَكَرْنَا عَنِ السُّدِّيِّ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَاهُ وَأَمَّا "الحَرْثُ" فَإِنَّهُ الزَّرْعُ، وَالنَّسْلُ: الْعَقِبُ وَالْوَلَدُ. "وَإِهْلَاكُهُ الزَّرْعَ" إِحْرَاقُهُ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَانَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ بِاحْتِبَاسِ الْقَطْرِ مِنْ أَجْلِ مَعْصِيَتِهِ رَبَّهُ وَسَعْيِهِ بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ بِقَتْلِهِ الْقُوَّامَ بِهِ وَالْمُتَعَاهِدِينَ لَهُ حَتَّى فَسَدَ فَهَلَكَ. وَكَذَلِكَ جَائِزٌ فِي مَعْنَى: "إِهْلَاكِهِ النَّسْلَ": أَنْ يَكُونَ كَانَ بِقَتْلِهِ أُمَّهَاتِهِ أَوْ آبَاءَهُ الَّتِي مِنْهَا يَكُونُ النَّسْلُ، فَيَكُونُ فِي قَتْلِهِ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ انْقِطَاعُ نَسْلِهِمَا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِظَاهِرِهَا مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ غَيْرَ أَنَّ السُّدِّيَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي قَتْلِهِ حُمُرَ الْقَوْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِحْرَاقِهِ زَرْعًا لَهُمْ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ فَاسِدٍ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهَا كُلٌّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ فِي قَتْلِ كُلِّ مَا قَتَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ بِحَالٍ، وَالَّذِي يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ- إِذَا قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، بَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ عِنْدِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَخْصُصْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ بَلْ عَمَّهُ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي عُمُومِ ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}، قَالَ: نَسْلَ كُلِّ دَابَّةٍ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: قَالَ: قُلْتُ أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: {الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}؟ قَالَ: الْحَرْثُ حَرْثُكُمْ، وَالنَّسْلُ: نَسَلُ كُلِّ دَابَّةٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ {الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}، فَقَالَ: الْحَرْثُ: مِمَّا تَحْرُثُونَ، وَالنَّسْلُ: نَسْلُ كُلِّ دَابَّةٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ تَمِيمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}، فَنَسْلُ كُلِّ دَابَّةٍ، وَالنَّاسِ أَيْضًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ}، قَالَ: نَبَاتُ الْأَرْضِ، " وَالنَّسْلَ " مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ تَمْشِي مِنَ الْحَيَوَانِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ}، قَالَ: نَبَاتُ الْأَرْضِ، " وَالنَّسْلِ ": نَسْلُ كُلِّ شَيْءٍ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، قَالَ: الْحَرْثُ النَّبَاتُ، وَالنَّسْلُ: نَسْلُ كُلِّ دَابَّةٍ. حَدَّثَنِي عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ}، قَالَ: "الْحَرْثُ "الَّذِي يَحْرُثُهُ النَّاسُ: نَبَاتُ الْأَرْضِ، " وَالنَّسْل" نَسْلُ كُلِّ دَابَّةٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}، قَالَ: الْحَرْثُ: الزَّرْعُ، وَالنَّسْلُ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ، قَالَ: يَقْتُلُ نَسْلَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَبْتَغِي فِي الْأَرْضِ هَلَاكَ الْحَرْثِ- نَبَاتِ الْأَرْضِ- وَالنَّسْلِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}، قَالَ: الْحَرْثُ: الْأَصْلُ، وَالنَّسْلُ: كُلُّ دَابَّةٍ وَالنَّاسُ مِنْهُمْ. حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرَقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ"فَسَادِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ" وَمَا هُمَا: أَيُّ حَرْثٍ، وَأَيُّ نَسْلٍ؟ قَالَ سَعِيدٌ: قَالَ مَكْحُولٌ: الْحَرْثُ: مَا تَحْرُثُونَ، وَأَمَّا النَّسْلُ: فَنَسْلُ كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُ الْقَرَأَةِ: "وَيَهْلَكُ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ" بِرَفْعِ "يَهْلَكُ"، عَلَى مَعْنَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِد فِيهَا، وَاللَّهِ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَيَرُدُّ "وَيُهْلِكُ" عَلَى "وَيُشْهِدُ اللَّهَ" عَطْفًا بِهِ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ قِرَاءَةٌ عِنْدِي غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَخْرَجٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مُجْمِعَةٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ" وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ"، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُصْحَفِهِ- فِيمَا ذُكِرَ لَنَا: "لِيُفْسِدَ فِيهَا وَلِيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ"، وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى تَصْحِيحِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ" وَيَهْلَكُ" بِالنَّصْبِ، عَطْفًا بِهِ عَلَى: "لِيُفْسِدَ فِيهَا".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمَعَاصِيَ، وَقَطْعَ السَّبِيلِ، وَإِخَافَةَ الطَّرِيقِ. و"الْفَسَادُ" مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "فَسَدَ الشَّيْءُ يَفْسُدُ"، نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: "ذَهَبَ يَذْهَبُ ذَهَابًا". وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ مَصْدَرَ"فَسَدَ""فُسُودًا"، وَمَصْدَرُ"ذَهَبَ يَذْهَبُ ذُهُوبًا".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِذَا قِيلَ لِهَذَا الْمُنَافِقِ الَّذِي نَعَتَ نَعْتَهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُعْجِبُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: اتَّقِ اللَّهَ وَخَفْهُ فِي إِفْسَادِكَ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَسَعْيِكَ فِيهَا بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ مَعَاصِيهِ، وَإِهْلَاكِكَ حُرُوثَ الْمُسْلِمِينَ وَنَسْلَهُمْ- اسْتَكْبَرَ وَدَخَلَتْهُ عِزَّةٌ وَحَمِيَّةٌ بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَتَمَادَى فِي غَيِّهِ وَضَلَالِهِ. قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَكَفَاهُ عُقُوبَةً مِنْ غَيِّهِ وَضَلَالِهِ، صِلِيُّ نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَبِئْسَ الْمِهَادِ لِصَالِيهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا كُلُّ فَاسِقٍ وَمُنَافِقٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِسِطَامُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعَطَارِدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إِلَى: "وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ "، قَالَ عَلِيٌّ: "اقْتَتَلَا وَرَبِ الْكَعْبَةِ". حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا صَلَّى السُّبْحَةَ وَفَرَغَ، دَخَلَ مِرْبَدًا لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى فِتْيَانٍ قَدْ قَرَأُوا الْقُرْآنَ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَخِي عُيَيْنَةَ، قَالَ: فَيَأْتُونَ فَيَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَدَارَسُونَهُ، فَإِذَا كَانَتِ الْقَائِلَةُ انْصَرَفَ. قَالَ فَمَرُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ إِلَى جَنْبِهِ: اقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ؟ فَسَمِعَ عُمَرُ مَا قَالَ: فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ قُلْتَ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: مَاذَا قُلْتَ؟ اقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ؟ قَالَ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرَى هَهُنَا مَنْ إِذَا أُمِرَ بِتَقْوَى اللَّهِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَأَرَى مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، يَقُومُ هَذَا فَيَأْمُرُ هَذَا بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ وَأَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، قَالَ هَذَا: وَأَنَا أَشْتَرِي نَفْسِي! فَقَاتَلَهُ، فَاقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ! فَقَالَ عُمْرُ: لِلَّهِ بِلَادُكَ يَا بْنَ عَبَّاسٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ الْأَخْنَسَ بْنَ شُرَيْقٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَبِئْسَ الْفِرَاشُ وَالْوِطَاءُ جَهَنَّمُ الَّتِي أَوْعَدَ بِهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَذَا الْمُنَافِقَ، وَوَطَّأَهَا لِنَفْسِهِ بِنِفَاقِهِ وَفُجُورِهِ وَتَمَرُّدِهِ عَلَى رَبِّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْيَبِيعُ نَفْسَهُ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِوَابْتَاعَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التَّوْبَةِ: 111]. وَقَدّ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى"شَرَى" بَاعَ، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الشَّارِيَ يَشْرِي إِذَا اشْتَرَى طَلَبَ مَرْضَاةِ اللَّهِ. وَنُصِبَ" ابْتِغَاءَ " بِقَوْلِهِ: "يَشْرِي "، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي [نَفْسَهُ] مِنْ أَجْلِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، ثُمَّ تُرِكَ" مِنْ أَجْلِ" وَعَمَلَ فِيهِ الْفِعْلُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ نَصَبَ ذَلِكَ عَلَى الْفِعْلِ، عَلَى" يَشْرِي "، كَأَنَّهُ قَالَ: لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، فَلَمَّا نَـزَعَ "اللَّامَ" عَمَلَ الْفِعْلُ، قَالَ: وَمِثْلُهُ: {حَذَرَ الْمَوْتِ} [الْبَقَرَةِ: 19] وَقَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ حَاتِمٌ: وَأَغْفِـرُ عَـوْرَاءَ الكَـرِيمِ ادِّخَـارَهُ *** وَأُعْـرِضُ عَـنْ قَـوْلِ الَّلئِـيمِ تَكَرُّمَـا وَقَالَ: لَمَّا أَذْهَبَ "اللَّامَ" أَعْمَلَ فِيهِ الْفِعْلَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيُّمَا مَصْدَرٍ وُضِعَ مَوْضِعَ الشَّرْطِ، وَمَوْضِعَ"أَنْ" فَتَحْسُنُ فِيهَا "البَاءُ" وَ "اللَّامُ"، فَتَقُولُ: "أَتَيْتُكَ مِنْ خَوْفِ الشَّرِّ-وَلِخَوْفِ الشَّرِّ- وَبِأَنْ خِفْتُ الشَّرَّ"، فَالصِّفَةُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَحُذِفَتْ وَأُقِيمَ الْمَصْدَرُ مَقَامَهَا. قَالَ: وَلَوْ كَانَتِ الصِّفَةُ حَرْفًا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، لَمْ يَجُزْ حَذْفُهَا، كَمَا غَيْرُ جَائِزٍ لِمَنْ قَالَ: "فَعَلْتُ هَذَا لَكَ وَلِفُلَانٍ" أَنْ يُسْقِطَ "اللَّامَ". ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَي مَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ وَمَنْ عُنِيَ بِهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَعُنِيَ بِهَا الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، قَالَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِأَعْيَانِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، قَالَ: نَزَلَتْ فِي صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ، وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ جُنْدُبَ بْنِ السَّكَنِ أَخَذَ أَهْلُ أَبِي ذَرٍّ أَبَا ذَرٍّ، فَانْفَلَتَ مِنْهُمْ، فَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَجَعَ مُهَاجِرًا عَرَضُوا لَهُ، وَكَانُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَانْفَلَتَ أَيْضًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَمَّا صُهَيْبٌ فَأَخَذَهُ أَهْلُهُ، فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مُهَاجِرًا فَأَدْرَكَهُ قُنْقُذُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جُدْعَانَ، فَخَرَجَ لَهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبَى جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمَ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنَعُوهُ وَحَبَسُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أُعْطِيكُمْ دَارِي وَمَالِي وَمَا كَانَ لِي مِنْ شَيْءٍ! فَخَلُّوا عَنِّي، فَأَلْحَقُ بِهَذَا الرَّجُلِ! فَأَبَوْا. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ لَهُمْ: خُذُوا مِنْهُ مَا كَانَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ وَخَلُّوا عَنْهُ! فَفَعَلُوا، فَأَعْطَاهُمْ دَارَهُ وَمَالَهُ، ثُمَّ خَرَجَ; فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، الْآيَةَ. فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ تَلَقَّاهُ عُمَرُ فِي رِجَالٍ، فَقَالَ لَهُ عُمْرُ: رَبِحَ الْبَيْعُ! قَالَ: وَبَيْعُكَ فَلَا يَخْسَرُ! قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أُنْـزِلَ فِيكَ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ كُلُّ شَارٍ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَمَلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الصَّفِّ حَتَّى خَرَقَهُ، فَقَالُوا: أَلْقَى بِيَدِهِ!! فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: بَعَثَ عُمْرُ جَيْشًا فَحَاصَرُوا أَهْلَ حِصْنٍ، وَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ، فَقَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ يَقُولُونَ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: كَذَبُوا، أَلَيْسَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}؟ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَمَلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الصَّفِّ حَتَّى شَقَّهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}. حَدَّثَنَا سِوَارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُزَمُ بْنُ أَبِي حُزَمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ قَرَأَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، أَتَدْرُونَ فِيمَ أُنْـزِلَتْ؟ نَزَلَتْ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ لَقِيَ الْكَافِرَ فَقَالَ لَهُ: "قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، فَإِذَا قُلْتَهَا عَصَمْتَ دَمَكَ وَمَالكَ إِلَّا بِحَقِّهِمَا! فَأَبَى أَنْ يَقُولَهَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَاللَّهِ لَأَشْرِيَنَّ نَفْسِي لِلَّهِ! فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، قَالَ: سَمِعَ عُمْرُ إِنْسَانًا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاة اللَّهِ}، قَالَ: اسْتَرْجَعَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! قَامَ رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّأْوِيلِ، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مِنْ أَنْ يَكُونَ عُنِيَ بِهَاالْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصَفَ صِفَةَ فَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُنَافِقٌ يَقُولُ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا اقْتَدَرَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ رَكِبَهَا، وَإِذَا لَمْ يَقْتَدِرْ رَامَهَا، وَإِذَا نُهِيَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ بِمَا هُوَ بِهِ آثِمٌ، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا بَائِعٌ نَفْسَهُ، طَالِبٌ مِنَ اللَّهِ رِضَا اللَّهِ. فَكَانَ الظَّاهِرُ مِنَ التَّأْوِيلِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ شَرَى نَفْسَهُ لِلَّهِ وَطَلَبَ رِضَاهُ، إِنَّمَا شَرَاهَا لِلْوُثُوبِ بِالْفَرِيقِ الْفَاجِرِ طَلَبَ رِضَا اللَّهِ. فَهَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ الْأَظْهَرُ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ نُـزُولِ الْآيَةِ فِي أَمْرِ صُهَيْبٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ، إِذْ كَانَ غَيْرَ مَدْفُوعٍ جَوَازُ نُـزُولِ آيَةٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَالْمَعْنِيُّ بِهَا كُلُّ مَنْ شَمِلَهُ ظَاهِرُهَا. فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ شَارِيًا نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، فَكُلُّ مَنْ بَاعَ نَفْسَهُ فِي طَاعَتِهِ حَتَّى قُتِلَ فِيهَا، أَوِ اسْتَقْتَلَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ، فَمَعْنِيٌّ بِقَوْلِهِ: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ"- فِي جِهَادِ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ، أَوْ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}. قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى "الرَّأْفَةِ"، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَنَّهَا رِقَّةُ الرَّحْمَةِ. فَمَعْنَى ذَلِكَ: وَاللَّهُ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ بِعَبْدِهِ الَّذِي يَشْرِي نَفْسَهُ لَهُ فِي جِهَادِ مَنْ حَادَّهُ فِي أَمْرِهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْفُسُوقِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجَلِهِمْ وَآجِلِ مَعَادِهِمْ، فَيُنْجِزُ لَهُمُ الثَّوَابَ عَلَى مَا أَبْلَوْا فِي طَاعَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيُسْكِنُهُمْ جَنَّاتِهِ عَلَى مَا عَمِلُوا فِيهَا مِنْ مَرْضَاتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى السِّلْمِفِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: الْإِسْلَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}، قَالَ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}، قَالَ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}، قَالَ: السِّلْمُ: الْإِسْلَامُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}، يَقُولُ: فِي الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}. قَالَ: السِّلْمُ: الْإِسْلَامُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ فَرَجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}: فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: ادْخُلُوا فِي الطَّاعَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}، يَقُولُ: ادْخُلُوا فِي الطَّاعَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ: "ادْخُلُوا فِي السَّلْمِ" بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ بِكَسْرِ السِّينِ. فَأَمَّا الَّذِينَ فَتَحُوا "السِّينَ" مِنْ "السِّلْمِ"، فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا تَأْوِيلَهَا إِلَى الْمُسَالَمَةِ، بِمَعْنَى: ادْخُلُوا فِي الصُّلْحِ وَالْمُسَالَمَةِ وَتَرْكِ الْحَرْبِ وَإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِالْكَسْرِ مِنَ "السِّينِ" فَإِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي تَأْوِيلِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجِّهُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِمَعْنَى ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَافَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجِّهُهُ إِلَى الصُّلْحِ، بِمَعْنَى: ادْخُلُوا فِي الصُّلْحِ، وَيَسْتَشْهِدُ عَلَى أَنَّ "السِّينَ" تُكْسَرُ، وَهِيَ بِمَعْنَى الصُّلْحِ بُقُولِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: وَقَـدْ قُلْتُمَـا إِنْ نُـدْرِكِ السِّـلْمَ وَاسِعًا *** بِمَـالٍ وَمَعْـرُوفٍ مِـنَ الْأَمْـرِ نَسْـلَمِ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِقَوْلِهِ: "ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ"، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَافَّةً. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ "السِّينِ" لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ- وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الصُّلْحِ- فَإِنَّ مَعْنَى الْإِسْلَامِ وَدَوَامِ الْأَمْرِ الصَّالِحِ عِنْدَ الْعَرَبِ، أَغْلَبُ عَلَيْهِ مِنَ الصُّلْحِ وَالْمُسَالَمَةِ، وَيُنْشِدُ بَيْتَ أَخِي كِنْدَةَ: دَعَـوْتُ عَشِـيرَتِي لِلسِّـلْمِ لَمَّـا *** رَأَيْتُهُـمُ تَوَلَّـوْا مُدْبِرينَـا بِكَسْرِ السِّينِ، بِمَعْنَى: دَعَوْتُهُمْ لِلْإِسْلَامِ لَمَّا ارْتَدُّوا، وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ ارْتَدَتْ كِنْدَةُ مَعَ الْأَشْعَثِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ يَقْرَأُ سَائِرَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ "السِّلْمِ" بِالْفَتْحِ سِوَى هَذِهِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَخُصُّهَا بِكَسْرِ سِينِهَا تَوْجِيهًا مِنْهُ لِمَعْنَاهَا إِلَى الْإِسْلَامِ دُونَ مَا سِوَاهَا. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} وَصَرَفْنَا مَعْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْآيَةَ مُخَاطَبٌ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَلَنْ يَعْدُوَ الْخِطَابُ إِذْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا مَعْنَى أَنْ يُقَالَ لَهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ: "ادْخُلُوا فِي صُلْحِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُسَالَمَتِهِمْ"، لِأَنَّ الْمُسَالَمَةَ وَالْمُصَالَحَةَ إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا مَنْ كَانَ حَرْبًا بِتَرْكِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا الْمُوَالِي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: "صَالِحْ فُلَانًا"، وَلَا حَرْبَ بَيْنَهُمَا وَلَا عَدَاوَةَ. أَوْ يَكُونُ خِطَابًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُصَدِّقِينَ بِهِمْ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمُنْكِرِينَ مُحَمَّدًا وَنُبُوَّتَهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}، يَعْنِي بِهِ الْإِسْلَامَ، لَا الصُّلْحَ. لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَإِلَى الَّذِي دَعَاهُمْ دُونَ الْمُسَالَمَةِ وَالْمُصَالَحَةِ. بَلْ نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنْدُ عَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ إِلَى الصُّلْحِ فَقَالَ: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 35] وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إِذَا دَعَوْهُ إِلَى الصُّلْحِ ابْتِدَاءً الْمُصَالَحَةَ، فَقَالَ لَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الْأَنْفَالِ: 61] فَأَمَّا دُعَاؤُهُمْ إِلَى الصُّلْحِ ابْتِدَاءً، فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقُرْآنِ، فَيَجُوزُ تَوْجِيهُ قَوْلِهِ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} إِلَى ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَأَيُّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ دُعِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ كَافَّةً؟ قِيلَ قَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دُعِيَ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: قِيلَ: دُعِيَ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ. فَإِنْ قَالَ: فَمَا وَجْهُدُعَاءِ الْمُؤْمِنِ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ؟ قِيلَ: وَجْهُ دُعَائِهِ إِلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ لَهُ بِالْعَمَلِ بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِ، وَإِقَامَةِ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَحُدُودِهِ، دُونَ تَضْيِيعِ بَعْضِهِ وَالْعَمَلِ بِبَعْضِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَانَ قَوْلُهُ" كَافَّةً" مِنْ صِفَةِ "السِّلْمِ"، وَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ: ادْخُلُوا فِي الْعَمَلِ بِجَمِيعِ مَعَانِي السِّلْمِ، وَلَا تُضَيِّعُوا شَيْئًا مِنْهُ يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ وَمَا جَاءَ بِهِ. وَبِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ يَقُولُ عِكْرِمَةُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}، قَالَ: نَـزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ يَامِينَ وَأَسَدٍ وَأُسَيْدٍ ابْنَيْ كَعْبٍ وَسَعْيَةَ بْنِ عَمْرٍو وَقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ- كُلُّهُمْ مِنْ يَهُودَ- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمُ السَّبْتِ يَوْمٌ كُنَّا نُعَظِّمُهُ، فَدَعْنَا فَلْنُسبِتْ فِيهِ! وَإِنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابُ اللَّهِ، فَدَعْنَا فَلْنَقُمْ بِهَا بِاللَّيْلِ! فَنَـزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}. فَقَدْ صَرَّحَ عِكْرِمَةُ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَدُعَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى رَفْضِ جَمِيعِ الْمَعَانِي الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَالْعَمَلِ بِجَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَالنَّهْيِ عَنْ تَضْيِيعِ شَيْءٍ مِنْ حُدُودِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْفَرِيقُ الَّذِي دُعِيَ إِلَى السِّلْمِ فَقِيلَ لَهُمُ: "ادْخُلُوا فِيهِ" بِهَذِهِ الْآيَةِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أُمِرُوا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}، يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}، قَالَ: يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالدُّخُولِ فِي الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي "الذِينَ آمَنُوا" الْمُصَدِّقُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَالْمُصَدِّقُونَ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَمَا جَاءُوا بِهِ، وَقَدْ دَعَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحُدُودِهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى فَرَائِضِهِ الَّتِي فَرَضَهَا، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَضْيِيعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ شَمِلَهُ اسْمُ "الإِيمَانِ"، فَلَا وَجْهَ لِخُصُوصِ بَعْضٍ بِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَبِمِثْلِ التَّأْوِيلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}، قَالَ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَافَّةً، ادْخُلُوا فِي الْأَعْمَالِ كَافَّةً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَافَّةً}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ "كَافَّة" عَامَّةً،، جَمِيعًا كَمَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {فِي السِّلْمِ كَافَّةً} قَالَ: جَمِيعًا. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فِي السِّلْمِ كَافَّةً}، قَالَ: جَمِيعًا. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ {فِي السِّلْمِ كَافَّةً}، قَالَ: جَمِيعً وَعَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجِرَاحِ، عَنِ النَّضْرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كَافَّةً}،: جَمِيعًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "كَافَّةً "، جَمِيعًا وَقَرَأَ. {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التَّوْبَةِ: 36] جَمِيعًا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}، قَالَ: جَمِيعًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ. بِذَلِكَ: اعْمَلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، وَادْخُلُوا فِي التَّصْدِيقِ بِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَدَعُوا طَرَائِقَ الشَّيْطَانِ وَآثَارَهُ أَنْ تَتْبَعُوهَا فَإِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ لَكُمْ عَدَاوَتَهُ. وَطَرِيقُ الشَّيْطَانِ الَّذِي نَهَاهُمْ أَنْ يَتْبَعُوهُ هُوَ مَا خَالَفَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ، وَمِنْهُ تَسْبِيتُ السَّبْتِ وَسَائِرُ سُنَنِ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّتِي تُخَالِفُ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى "الخُطُوَاتِ" بِالْأَدِلَّةِ الشَّاهِدَةِ عَلَى صِحَّتِهِ فِيمَا مَضَى، فَكَرِهْتُ إِعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِنْ أَخْطَأْتُمُ الْحَقَّ فَضَلَلْتُمْ عَنْهُ، وَخَالَفْتُمُ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَهُ، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ حُجَجِي وَبَيِّنَاتُ هُدَايَ، وَاتَّضَحَتْ لَكُمْ صِحَّةُ أَمْرِ الْإِسْلَامِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي قَطَعَتْ عُذْرَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ذُو عِزَّةٍ، لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْكُمْ مَانِعٌ، وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْ عُقُوبَتِكُمْ عَلَى مُخَالَفَتِكُمْ أَمْرَهُ وَمَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ دَافِعٌ "حَكِيمٌ" فِيمَا يَفْعَلُ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ عَلَى مَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ، بَعْدَ إِقَامَتِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أُمُورِهِ. وَقَدْ قَالَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِنَّ "الْبَيِّنَاتِ" هِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ. وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنَ، مِنْ حُجَجِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. غَيْرَ أَنَّ الَّذِي قُلْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، قَدِ احْتَجَّ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْإِسْلَامَ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِهِمْ بِالْوَصَاةِ بِهِ، فَذَلِكَ وَغَيْرُهُ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ مَعَ مَا لَزِمَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ. فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْقَائِلِينَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ}: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ}، يَقُولُ: فَإِنْ ضَلَلْتُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} قَالَ: الزَّلَلُ: الشِّرْكُ.
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْقَائِلِينَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}، يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}، قَالَ: الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، يَقُولُ: عَزِيزٌ فِي نِقْمَتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَمْرِهِ.
|